فصل: 5- الصحة والبطلان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.5- الصحة والبطلان:

ما طلبه الشارع من المكلفين من أفعال، وما شرعه لهم من أسباب وشروط، إذا باشرها المكلف قد يحكم الشارع بصحتها، وقد يحكم بعدم صحتها.
فإذا وجدت على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن تحققت أركانها وتوافرت شرائطها الشرعية، حكم الشارع بصحتها، وإن لم توجد على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن اختل ركن من أركانها أو شرط من شروطها حكم الشارع بعدم صحتها.
ومعنى صحتها شرعا: ترتب آثارها الشرعية عليها.
فإن كان الذي باشره المكلف فعلا واجبا عليه، كالصلاة والصيام والزكاة والحق وأداء المكلف مستكملا أركانه وشروطه سقط عنه الواجب، وبرئت ذمته منه، ولم يستحق تعزيزا في الدنيا واستحق المثوبة في الآخرة.
وإن كان الذي باشره المكلف سببا شرعيا كالزواج والطلاق والبيع والهبة وسائر العقود والتصرفات، واستوفى المكلف أركانه وشرائطه الشرعية، وترتب على كل سبب أثره الشرعي الذي رتبه الشارع عليه من إثبات الحل أو إزالته، أو تبادل ملك البدلين أو الملك بغير عوض، أو غير ذلك من الآثار والحقوق التي تترتب على الأسباب الشرعية الصحيحة.
وإن كان الذي باشره شرطا كالطهارة للصلاة، واستوفى المكلف شروطها وأركانها، أمكن تحقيق المشروط صحيحا.
ومعنى عدم صحتها عدم ترتب آثارها الشرعية عليها.
فإن كان الذي باشره واجبا لا يسقط عنه ولا تبرأ ذمته منه.
وإن كان سببا شرعيا لا يترتب عليه حكمه.
وإن كان شرطا لا يوجد المشروط.
وذلك لأن الشارع إنما رتب الآثار على أفعال وأسباب وشروط تتحقق كما طلبها وشرعها، فإذا لم تكن كذلك فلا اعتبار لها شرعا.
ومن هذا البيان يؤخذ أن ما صدر عن المكلف من أفعال أو أسباب أو شروط ولم يتفق وما طلبه الشارع أو ما شرعه يكون غير صحيح شرعا، ولا يترتب عليه أثره، سواء كان عدم صحته لاختلال ركن من أركانه أو لفقد شرط من شروطه، وسواء أكان عبادة أو عقداً أو تصرفاً. وعلى هذا لا فرق بين باطل وفاسد، لا في العبادات ولا في المعاملات.
فالصلاة الباطلة لا تسقط الواجب عن المكلف ولا تبرئ ذمته.
والزواج الباطل كالزواج الفاسد لا يفيد ملك المتعة ولا يترتب عليه أثره.
والبيع الباطل كالبيع الفاسد لا يفيد نقل المكل في البدلين ولا يترتب عليه حكم شرعي.
وتكون القسمة ثنائية، أي أن الفعل أو العقد أو التصرف إما صحيح تترتب عليه آثاره، وإما غير صحيح لا يترتب عليه أثر شرعي، وهذا هو رأي الجمهور.
وقال علماء الحنفية: إن القسمة ثنائية في العبادات، فهي إما صحيحة وإما غير صحيحة، ولا فرق بين باطل الصيام مثلاً وفاسده في أنه لا يترتب عليه أثره ولا يسقط الواجب، وعلى المكلف قضاؤه. وأما في العقود والتصرفات فالقسمة ثلاثية، لأن العقد غير الصحيح ينقسم إلى باطل وفاسد؛ فإن كان الخلل في أصل العقد أي في ركن من أركانه بأن كان في الصيغة أو العاقدين أو المعقود عليه، كان العقد باطلا لا يترتب عليه أثر شرعي، وإن كان الخلل في وصف من أوصاف العقد بأن كان في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، كان العقد فاسدا، وترتبت عليه بعض آثاره.
وعلى هذا قالوا: إن بيع المجنون أو غير المميز أو بيع المعدوم باطل وأما البيع بثمن غير معلوم فهو فاسد. وإن زاوج غير المميز أو زواج إحدى المحرمات مع العلم بالحرمة باطل، وأما الزواج بغير شهود فهود فاسد. ولم يرتبوا على الباطل أثرا، ورتبوا على الفاسد المهر والعدة وأثبتوا النسب، وفي البيع الفاسد إذا رفع سب الفساد في المجلس بأن عيَّن الثمن أو الأجل ترتبت على العقد آثاره، وهو يفيد الملك بالقبض.
ومما قدمنا بيانه من معنى الصحة ومعنى البطلان: يظهر الوجه في عدهما من الحكم الوضعي؛ لأن الصحة هي ترتب الآثار الشرعية على الأفعال والأسباب أو الشروط التي باشرها المكلف، والبطلان عدم ترتب شيء من تكلك الآثار، فالحكم بصحة البعض حكم بسببيته شرعا لأحكامه.

.3- المحكوم فيه:

المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، الإيجاب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو: الإيفاد بالعقود فجعله واجبا.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، الندب المستفاد من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو كتاب الدين، فجعله مندوباً.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ} [الأنعام: 151]، التحريم المستفاد من هذا الخطاب تعلّق بفعل من أفعال المكلفين هو قتل النفس، فجعله محرّماً.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]، الكراهة المستفادة من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إنفاق المال الخبيث فجعلته مكروهاً.
وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، الخطاب تعلق بالمرض والسفر فجعل كلا منهما مبيحا للفطر.
فكل حكم من أحكام الشارع فهو لابد متعلق بفعل من أفعال المكلفين على جهة الطلب، أو التخيير، أو الوضع.
ومن المقرر أنه لا تكليف إلا بفعل، أي أن حكم الشارع التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف.
فإذا كان حكم الشارع إيجابا أو ندبا فالأمر واضح، لأن متعلق الإيجاب فعل الواجب على سبيل الحتم، ومتعلق الندب فعل المندوب لا على سبيل الحتم والإلزام، فالتكليف في الحالتين بفعل. وإذا كان الشارع تحريما أو كراهة فالمكلف به في الحالتين هو فعل أيضا، لأنه هو كف النفس عن فعل المحرم أو المكروه، فمعنى قولهم: لا تكليف إلا بفعل، أن الفعل يشمل الكف، أي المنع للنفس عن فعل. وبهذا تكون جميع الأوامر والنواهي متعلقة بأفعال المكلفين، ففي الأوامر: المكلف به: فعل المأمور به، وفي النواهي: هو الكف عن المنهي عنه.
شرط صحة التكليف بالفعل: يشترط في الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون معلوماً للمكلف علماً تاماً حتى يستطيع المكلف القيام به كما طلب منه، وعلى هذا فنصوص القرآن المجملة؛ أي التي لم يبين المراد منها، لا يصح تكليف المكلف بها إلا بعد أن يلحق بها بيان الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة: 43]، لم يبين النص القرآني أركان الصلاة وشروطها وكيفية أدائها، فكيف يكلف بالصلاة من لا يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المجمل وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
وكذلك الحج والصوم والزكاة وكل فعل تعلق به خطاب من الشارع مجمع لا يعلم مراد الشارع به، لا يصح التكليف به ولا مطالبة المكلفين بامتثاله إلا بعد بيانه. ولهذا أعطى الله ورسوله سلطة التبيين بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وبيّن الرسول بسننه القولية والفعلية ما أجمل في القرآن، واتفق العلماء على أنه لا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وثانيها: أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف، وممن يجب على المكلف اتباع أحكامه لأنه بهذا العلم تتجه إرادته إلى امتثاله، وهذا هو السبب في أن أول بحث في أي دليل شرعي هو حجيته على المكلفين، أي أن الأحكام التي يدل عليها أحكام واجب على المكلفين تنفيذها. وهو السبب أيضا في أن كل قانون وضعي يتوجب بالديباجة الخاصة التي تدل على أن الحاكم أصدر القانون بناء على عرض مجلس الوزراء وموافقة البرلمان، ليعلم المكلفون أن القانون صادر ممن لهم سلطان التشريع، وممن يجب عليهم امتثال تكاليفهم؛ فيتجهوا للتنفيذ.
ويلاحظ أن المراد بعلم المكلف بما كلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلا، فمتى بلغ الإنسان عاقلا قادرا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، اعتبر عالما بما كلف به، ونفذت عليه الأحكام وألزم بآثارها ولا يقبل منه الاعتذار بجهلها. ولهذا قال الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي، لأنه لو شرط لصحة التكلف علم المكلف فعلا بما كلف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام.
وعلى هذا التقنين الوعي، فالناس يعتبرون عالمين بالقانون بتيسير إمكان علمهم به، وذلك بنشره بالطريق القانوني بعد إصداره. ولا اعتبار لأن كل فرد من المكلفين علم به فعلا أو لا، ولذا جاء في مادة (22) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية: لا يقبل من أحد أن يدعي بجهله القانون. وكذلك المراد بعلم المكلف بأن تكليفه بما كلف به صادر ممن يجب عليه امتثال أحكامه، وإمكان علمه بهذا لا علمه به فعلا.
فكل حكم شرعي يمكن للمكلف أن يعرف دليله، وأن يعرف أن دليله حجة شرعية، على المكلفين إتباع ما يستمد منه، سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه.
وثالثها: أن يكون الفعل المكلف به ممكنا، أو أن يكون في قدره المكلف أن يفعله أو أن يكف عنه. وتفرع عن هذا الشرط أمران:
أحدهما: أنه لا يصح شرعيا التكليف بالمستحيل، سواء أكان مستحيلا لذاته أم مستحيلا لغيره. فالمستحيل لذاته أي المستحيل عقلا هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، مثل إيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد، على شخص واحد؛ أو الجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة في وقت واحد. والمستحيل لغيره، أو العادي، وما يتصور العقل وجوده ولكن ما جرت سنن الكون ولا العادة المطردة بوجود، كطير الإنسان في الهواء بغير طائرة ووجود زرع بغير بذرة، لأن ما لا يتصور وجوده عقلا أو عادة لا يمكن للمكلف فعله، وهو ليس في وسعه، والله لا يكلف نفسها إلا وسعها، وهو حكيم منزه عن العبث وعن التكليف بفعل ما لا سبيل إلى فعله. وعن هذا تفرع قول الأصوليين: الشخص الواحد في الوقت الواحد بالشيء الواحد لا يؤمر وينهي، لأن هذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهما فعل الشيء وتركه في وقت واحد من مكلف واحد.
وثانيهما: أنه لا يصح شرعا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلا أو يكف غيره عن فعل، لأن فعل غيره أو كف غيره ليس ممكنا لو هو، وعلى هذا لا يكلف إنسان بأن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره عن السرقة. وكل ما يكلف به الإنسان مما يخص غيره هو النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا من فعله المقدور له.
وكذلك لا يصح شرعا أن يكلف الإنسان بأمر من الأمور الجبلية للإنسان التي هي مسببات لأسباب طبيعية ولا كسب للإنسان فيها ولا اختيار، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والحب والبغض، والحزن والفرح، والخوف حين وجود أسبابها، والهضم والتنفس، والطول والقصر، والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي فطر عليها الناس، ووجودها وعدمها خاضع لقوانين خلقية، وليس خاضعا لإدارة المكلف واختياره، فهي خارجة عن قدرته، وليست من الممكنات له.
وإذا ورد في بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا بما ليس مقدورا للإنسان من هذه الأمور، فهو ليس على ظاهره، وبتحقيق النظر فيه يتبين أنه تكليف بما هو مقدور.
مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب» ظاهرة التكليف بالكف عن أمر طبيعي غير كسبي وهو الغضب عند وجود داعيته، ولكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الغضب، ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه، فالمراد: أضبط نفسك حين الغضب وكفها عن آثاره السيئة.
وقوله عليه السلام: «كن عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل» ظاهرة التكليف بأن يقتله غيره، ولكن حقيقته التكليف بأن لا يظلم ولا يبدأ بعدوان، فالمراد: لا تظلم.
وقوله عليه السلام: «أحبوا الله لما أسدي عليكم من نعمه» ظاهره التكليف بالحب، ولكن حقيقته التكليف بالنظر في النعم التي أسداها الله إليك حتى تكونوا دائما ذاكرين شاكرين.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، ظاهرة تكليفهم الآن بأن يكونوا يسيروا في طريق يثبت إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم.
وقوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو.
وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره.
ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يستلزم أن تكون في الفعل أية مشقة على المكلف، لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا أو كونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلوا من نوع مشقة، لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة.
غير أن المشقة نوعان:
النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داوموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شئونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله.
والتكاليف الشرعية لا تخلو من مشقات من هذا النوع فيها صعوبة ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن دوام عليها ضرراً ولا أذى. والشارع ما قصد بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي لزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب علي تناوله من شفائه، فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه. فالصلاة والزكاة والصيام وسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف، ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لابد للإنسان منها لاستقامة حياته. والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله، كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أرد شفاءه.
النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس ولا يمكن أن يداوموا على احتمالها، لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم قيام الليل، والترهب، والصيام قائماً في الشمس، والحج ماشيا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر. فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها، لأن المقصد الأول رفع الضرر عن الناس، وفي التكليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شعر الله أحاكم الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الله الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء، أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحجات، إلا لدفع هذه المشقّات، فال يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها.
فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله وعن الترهيب، وقال: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: «أتم صومك ولا تقم في الشمس». وقال: «خذوا من الأعمال ما تطيقون»، و«القصد القصد تبلغوا»، «هلك المتنطعون»، «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه»، «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى». وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر وقال: «ليس من البر الصيام في السفر»، وقال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه».